صادف أنّني كنت أعلّم كارل ماركس في صف عن تاريخ الفكر السياسي في اليوم الذي اندلع فيه الشجار في الحزب الشيوعي اللبناني. هذان الحدثان هما، من جهة، غير مرتبطين، فلا علاقة بين الحزب وماركس غير تسمية "شيوعي" من الصعوبة استدلال صلتها بنشاط الحزب اليوم. ولكنه من جهة أخرى، فإنّ التعليقات حول الحدث الأخير ربطت، إن ضمنيًا، بين الحزب وما يعتبر "اليسار" في لبنان، فساهمت في خطاب أصبح مألوفًا يرى اليسار كتوجه فاشل ورجعي وربّما ديكتاتوري.
نقد فكرة اليسار، وماركس كمصدرها، من خلال نقد الأحزاب الشيوعية ليس ظاهرة خاصة بلبنان. فالأحزاب الشيوعية الأخرى حول العالم تلاقي مصيرًا مشابهًا، مع الفرق أنّها، في دول شرق أوروبا مثلاً، تتبنّى الشيوعية بصورة مباشرة وواضحة ، فتكون بذلك خسارتها لشرعيّتها دليلًا على فشل المشروع الشيوعي كمشروع. المشكلة مع الحزب الشيوعي اللبناني أنّه ليس من الواضح ما يمثله اليوم من الشيوعية، فيبدو النقد الموجّه اليه نقدًا للمشروع الشيوعي فيما هو فعلاً نقد لمظاهر لا تتميّز بها الأحزاب الشيوعية وحدها، مثلاً الفساد. هذا لا يعني أنّ المشروع الشيوعي لا يستحق النقد، بل بالعكس، المشكلة هي أنّه لا نقاش فعلي حول الشيوعيّة، والتوجّه اليساري عامة، في لبنان.
طبعًا يمكن القول أنّه لا ضرورة أصلاً لنقاش حول الشيوعية. ففشلها ظاهر بأم العين، ويتجسّد بالاتحاد السوفياتي وتبعاته. ولكن هذا القول غالبًا ما يستخدم لنبذ فكرة اليسار بشكل عام، أو على الأقل اليسار الذي يعزى إلى كارل ماركس، فيما الصلة بين ماركس والحركات الشيوعية ليست صلة مباشرة كما يعتقد الكثيرون. حتّى طلّابي الأميركيين، بأفكارهم السلبيّة التي يأتون بها لقراءة ماركس والتي ينمّيها الخطاب السياسي في بلدهم الذي يعتبر أي شكل من أشكال اليسار نوعًا من الفاشية، يتفاجأون عندما يقرأون ماركس ("الاديولوجية الألمانية" مثلاً) ويجدون أنفسهم متفقين معه أكثر بكثير ممّا كانوا يتوقعون. والسبب في ذلك بسيط وهو أنّ أي قراءة متأنّية لماركس تظهر مدى اهتمامه بالحرية الشخصية، أو تحديدًا بخلق الظروف التي تتيح نوعًا من التحقيق الذاتي. هذا هو الهم الذي ضاع في خضم الثورات الشيوعية العالمية والذي لا بدّ من التوقف عنده قبل رفض ماركس والتوجه اليساري عمومًا.
ما يصفه ماركس في كتاباته هو ظاهرة الاضطهاد في زمن ما بعد الثورة الصناعية، في الحقبة التي تبلور فيها أيضًا خطاب الحريّات. للمأساة التي تشغله وجهان: وجه اقتصادي يكمن في تحويل القسم الأكبر من البشر إلى أدوات انتاج لمصلحة فئة صغيرة من الرأسماليين، ووجه سياسي يكمن في طبقة سياسية حاكمة تحمي مصلحة الفئة الأخيرة فيما تدعو لأفكار مجرّدة كحقوق الإنسان. نظام اقتصادي يقتصر فيه نشاط الأغلبية من الناس على تحقيق المعيشة، ونظام سياسي يشرّع ذلك باسم حق الملكيّة. منظومة اقتصادية لا تسمح لقسم كبير من الناس بتحقيق أي من رغباتهم، أو هواياتهم، أوتطلّعاتهم، في ظل خطاب سياسي يدعو إلى الحرية الفردية.
لم يكن هدف ماركس الأخير سيطرة الدولة على الناس أو على السوق. كان يظنّ أنّ التطوّر التكنولوجي وتوفّر الموارد سيؤمن ضرورات الحياة ممّا يسمح بإلغاء تقسيم العمل ونزاع الطبقات وبالتالي الدولة بما تمثّل الطبقة الحاكمة. الهدف الأخير كان مجتمعًا يختار فيه المرء الحياة التي يشاء ويعيش حرًّا، أي غير خاضع لآلة وغير تابع لمرء آخر. خطأ ماركس كان ربّما إذًا شيئًا من المثاليّة، تظهر أيضًا في اعتقاده أنّ "ديكتاتورية البروليتاريا" يمكنها أن تكون وسيلة مؤقتة للتخلص من النظام الرأسمالي القائم. ولكنّ المهم أنّه لم ير الديكتاتورية هدفًا ولم يترك لها مكانًا في مجتمعه المبتغى.
لم يكن ماركس بالتأكيد أوّل أو آخر من اهتمّ بمفهوم الحريّة، وليس الهدف هنا جعل ماركس رمزًا آخرًا من رموز الفكر الليبرالي. ما يميّز ماركس، ويجعله مهمًّا، حتّى في يومنا هذا، ويجعل من اليسار توجهًا مختلفًا عن التوجهات التي يمكن وصفها بالديمقراطية، هو أنّه يشدّد على العلاقة الوطيدة بين النظام الاقتصادي والنظام السياسي، أي على فكرة أنّ لا حريّة سياسيّة في ظل نظام اقتصادي مبني على الاستغلال، في نظام تغتني فيه شريحة صغرى من المجتمع على حساب الأكثرية. الحريات السياسية والمدنية لا تكفي كهدف بحد ذاتها، أي خارج نظام اقتصادي يؤمن العدالة الاجتماعية.
الاصطفاف السياسي اللبناني الحالي ليس اصطفافًا بصورة أولى أو أساسية حول قضية العدالة الاجتماعية، ممّا يعني أنّ هذه القضيّة تضيع في خضم الجدال السياسي القائم. يبدو النقاش حول قضايا اقتصادية-اجتماعية، كنظام الضرائب والضمان الصحي والمستوى الأدنى للأجور وحقوق العاملين وتنظيم القطاع العام والخصخصة وأسس النظام المالي، متشرذمًا وغالبًا ما يميل إلى الشعبوية، ولا ربط منهجي بين المشروع الديمقراطي والمشروع الاقتصادي-الاجتماعي. قضية الطائفية مثلاً تطرح عادة كمشكلة سياسية، كالقول بهيمنة الهويات الرجعية وغياب الميول الوطنية ، من دون عرض العلاقات الاقتصادية التي تشجعها، كنظم الاحتكار التي يبني عليها زعماء الطوائف زعاماتهم. بكلام آخر، ثمّة ضرورة للانتقال من نقاش سياسي محض، إلى نقاش يتضمن جدّيًا سبل تحقيق العدالة الاجتماعية في زمننا اليوم وفي بلدنا بمميّزاته. هذه الضرورة تجلّت في الاضرابات والاعتصامات التي قام بها المعلّمون وموظفو القطاع العام مؤخرًا والتي نجحت في تحقيق مطالبها، بل أيضًا في حشد المشاركين خارج الاصطفاف اللبناني الحالي، ولكنّها لم تترجم من قبل المعنيين بالشأن العام في نقاش أو أجندا فعليين حول دور الدولة في القطاع العام بمختلف مكوّناته، وبالتحديد ضمن نظام ديمقراطي نريده ليس فقط يتبنّى الحريّة والحقوق المجرّدة، بل يؤمّن الحريّة الحقيقيّة، كما كان ماركس ليقول.